هناك دائما في منطقتنا العربية مطالب شعبية، وحديث يجري بين السياسيين عن ضرورة مكافحة الفساد، أو القضاء على الفساد، بعضه يقع على مستوى الشعارات الانتخابية لا أكثر، ويلعب اللفظ دورا محوريا في تلك المعركة، إلا أن المحك هو الإرادة السياسية، والتي تنطلق من سياسيين جادين يدركون أن الفساد كالتفاحة الفاسدة تهلك ما حولها، وليس حدثا طارئا يمكن التعامل معه بالتغاضي.

السعودية صدمت الجميع، الحاقد قبل المحب، وفي حزمها وعزمها على محاربة الفساد لا مجرد مكافحته، ومن أعلى الهرم لا من قاعدته، بعيدا عن القاعدة السائدة في دول العالم الثالث، والتي تتعامل مع الفساد بطريقة تقليم الأظافر. فالفساد ينتشر عموديا لا أفقيا، لذلك المعالجات من قاعدة الهرم لا تحل المعضلة.

وربما للمحايدين ولَم أقل المحبين، استمرت حالة الدهشة، وهي تظهر أشخاصا على قوائم المحاسبة، دون أي تعامل استثنائي لمناصب معينة كالقضاء، ودون أي حصانة للوجهاء أو الأمراء، فالإرادة السياسية مدركة لأن الحرب على الفساد تقتضي أن تكون حربا على الفساد كظاهرة لا تُعنى بالضرورة بهوية الفاسدين.

قبل أيام أعلن في السعودية عن إيقاف موظفين يعملون في الشركة السعودية للكهرباء لحصولهم على مبالغ مالية تصنف تحت بند الرشوة، تصل إلى خمسمئة وخمسة وثلاثين ألف يورو من إحدى الشركات الفرنسية وفتحهم لحسابات بنكية بإحدى الدول بطلب من الشركة لاستقبال تلك المبالغ بهدف التمويه عن مصدرها العائد من غسل أموال، وقيام أحدهم بتحويل جزء من مبلغ الرشوة لحسابه البنكي بدولة أخرى بهدف تحويلها لحسابه البنكي داخل المملكة، وكذلك قيام الشركة الفرنسية بتسليمهم مبالغ نقدية بما يقارب ثلاثين ألف يورو كمصاريف للسفر والإقامة والإعاشة خلال زيارتهم لمقر الشركة بجمهورية فرنسا والاجتماع مع المديرين التنفيذيين بها دون علم الشركة السعودية للكهرباء وكان ذلك مقابل قيامهم بقبول منتجات الشركة الفرنسية وزيادة طلبات الشراء على تلك المنتجات مستغلين مناصبهم الوظيفية.

وفي هذا المثال عدة إشارات فالفساد لم يقع من موظفين حكوميين بل من عاملين بالقطاع الخاص، والرشوة لم تأت من جمهورية موز، بل هي من دولة من الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، والأمران يشيران إلى درجه اليقظة التي بلغتها هيئة الرقابة ومكافحة الفساد في السعودية، والتي أشارت في إعلانها الأخير إلى أنها باشرت 105 قضايا في الفترة الأخيرة.

وفي ضوء الإعلان الأخير نجد عين الرقابة ساهرة على مختلف القطاعات، فالقضية الثانية التي أعلنت عنها هيئة الرقابة ارتبطت بالقطاع التعليمي، حيث تم إيقاف عضو هيئة تدريس بإحدى الجامعات لقيامه بطلب مبالغ مالية بلغت ثمانين ألف ريال تحت بند لرشوة، من عدد من الشركات التشغيلية بالجامعة وكذلك قيامه بطلب نسبة 20 في المئة من قيمة أحد عقود الجامعة مع الشركات التشغيلية مستغلا نفوذه الوظيفي بطبيعة الحال.

وعلى مستوى القطاعات الأمنية رصدت قضية  لضابط برتبة عميد شرطة في إحدى المناطق لقيامه باستغلال نفوذه الوظيفي، والتنقل بالمركبة الرسمية لتسهيل مرور مركبة خاصة أخرى عبر النقاط الأمنية بطريقة غير نظامية أثناء منع التجول “الحظر”، وهو ما يسمى بزنس الأزمات والذي يخلق فرصا لضعاف النفوس متى ما كانوا أصحاب صلاحية وليسوا أصحاب ضمير.

وتمتد القضايا التي أعلن عنها في البيان الأخير إلى قطاعات كالإسكان ووزارة الصحة، ووزارة التعليم والجمارك، ووصولا حتى للنيابة العامة، وكما أنه لا صفة تمثيلية فوق المساءلة، لا يوجد قطاع معين فوق القانون.

وربما يتبادل إلى الذهن سؤال حول سر هذا الإصرار من القيادة السعودية، متمثلة في الملك سلمان وولي العهد الأمير محمد بن سلمان على محاربة الفساد، والذي تحول إلى نهج دائم لا مرحلة طارئة.

وربما الإجابة وإن بشكل غير مباشر نجدها في أحد لقاءات الأميرة ريما بنت بندر بن سلطان، سفيرة خادم الحرمين الشريفين في واشنطن، والتي قالت في أحد اللقاءات التلفزيونية على قناة أجنبية، في سياق ردها على سؤال حول الدافع من خطوات تمكين المرأة، والتي حظيت بالعديد من القفزات في السنوات الأخيرة، إن هذه الخطوات لم تكن تتحرك دون إستراتيجية، وليس صحيحا أنها نتاج ضغط خارجي، فهو ضغط طالما كان موجودا، لكن الدافع هو وعي القيادة بتطلعات المجتمع، والدافع الرئيسي كما قالت الأميرة ريما هو الاقتصاد، فلا نجاح اقتصادي لمجتمع يعطل نصف قدراته.

وما قيل عن تمكين المرأة يقال عن محاربة الفساد، فالدافع أيضا هو اقتصادي، فلا يمكن المسير نحو رؤية المملكة 2030، وسعيها لتنويع الاقتصاد السعودي وتعزيز قدراته التنافسية، مع السماح للفساد بنخر هذه الماكينة الواثبة للأمام.

اليوم أيضا كل مواطن يشعر بالمسؤولية تجاه مكافحة الفساد، فلم يعد يخشى من حيف وظيفي إذا ما قام بالتبليغ عن الفساد، فالقانون يحميه ما دام تقدم بقضية فساد محقة، وليس مجرد دعوى كيدية، لأن القانون يحمي الآخرين أيضا.

إذا ما ذهبت لطبيب الأسنان طالبا منه أن يضع تقويما لتعديل اعوجاج أسنانك، فإنه يطلب منك أولا تنظيف أسنانك ثم إزالة السوس حتى يتمكن من تركيب التقويم، ثم إنه سيسألك الالتزام بالتنظيف المستمر حتى لا ينخر السوس الأسنان بعد تركيب التقويم، وهو خطر قائم، هذا هو الطريق الوحيد للخروج بأسنان متراصة وخالية من أي سوس.

وهكذا هو النهج الطبيعي لمواجهة الفساد في المملكة، القضاء على الفساد بيد من حديد، وديمومة المتابعة مع ثبات الإرادة السياسية للتصدي للفساد بشتى صوره ودرجاته، والذي يسمح لنا بالخروج بنتيجة تشبه السعودية الجديدة، السائرة قدما لتحقيق رؤيتها 2030 بإصرار يدرك الصعوبات، ويمضي لتخطيها بغاية الثبات.

جريدة العرب
https://alarab.co.uk/%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%87%D8%AC-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B9%D9%88%D8%AF%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D9%85%D9%83%D8%A7%D9%81%D8%AD%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B3%D8%A7%D8%AF
الجمعة 10 يوليو 2020


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *