“كما تعرفون أن الحرب المدمرة في اليمن، التي اندلعت بسبب التنافسات والتدخلات الإقليمية وغير الإقليمية والتي ما زالت مستمرة لأكثر من خمس سنوات، حصدت حتى الآن عشرات الآلاف من الأرواح بين قتيل وجريح وخلّفت دماراً شاملاً”.
هذا الحديث لم يصدر من جمعية حقوق الإنسان أو أطباء بلا حدود، ولا من أحد المنظمات المعنية بالسلم الأهلي، بل صدر من الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد، عبر خطاب وجهه إلى وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، كما أرسل نجاد نسخة من رسالته إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش.
ويضيف نجاد “إن هذه الحرب أدت إلى تشديد المنافسة والعداء، كما أدت إلى ابتعاد دول المنطقة وشعوبها عن التعاون البنّاء، وأدت إلى تدهور الأمن العام”، وللمعلومية فقد كانت فترة رئاسة نجاد بين 2005 إلى 2013، على فترتين، حيث شهد العام 2009 تزوير النتائج حتى يصبح رئيسا بدلا من مير حسين موسوي.
مما يعني أن محمود أحمدي نجاد شهد تقريبا كل الحروب بين الحوثيين وعلى عبدالله صالح، والتي انطلقت من 2004 وصولا للعام 2009 حين هاجم الحوثيون الأراضي السعودية، ولا نذكر عنه في تلك الأيام لا وساطة بين الأطراف اليمنية ولا الحد من دعم الحوثي ليعتدي على المملكة.
وعاد نجاد من خلال رسالته للعب على لحن أن الصراعات الإقليمية تحركها الأجندات الغربية، حيث يقول “وعلى الرغم من أن القوى العالمية تزعم أن لها في هذه الحرب مصالح، لكن لو تبصر حقاً لرأت أن هذه الكارثة الإنسانية لا تؤمّن مصالح أيّ طرف من الأطراف. المصالح الحقيقية لكل شخص ولكل شعب تكمن في الحفاظ على الكرامة الإنسانية وتعزيز السلام والعدالة والحرية والمحبة والإعمار والتعاون الودي والبناء. ولذلك كل المحاولات من أجل السيطرة على الآخرين ستفني الحقيقة الإنسانية ولن تخلّف غير الخسارة للشعوب.”
وحقيقة الأمر أن إيران لو لم تتمدد في الدول العربية لسلمت تلك الدول، ولا ما احتجنا لمشاهدات دول فاشلة ومفلسة كلبنان، ودول مفتتة كسوريا، ودول غنية بلا رصيد أو ماء كالعراق، وهذا بطبيعة الحال يستنسخ مع التمدد التركي.
السعودية لم تردّ على الرسالة ولم تعلق ممثلية المملكة العربية السعودية في الأمم المتحدة عن تسلم الرسالة من قبل وليّ العهد من عدمه، وأعتقد أن لا أحد يأخذ الرسالة على محمل الجد، لأن العارفين بالنظام الإيراني يعرفون أن صناعة القرار محتكرة لدى المرشد الأعلى وحده.
ولا تنطلي على العارفين بالمشهد الإيراني لعبة المحافظين والإصلاحيين، أو الصقور والحمائم، فالنظام الإيراني يفلتر من يترشح للانتخابات البرلمانية والرئاسية عبر عدة آليات أبرزها مجلس تشخيص مصلحة النظام، وبالطبع فنجاد يُحسب على التيار المتشدد رغم أنه الرئيس الإيراني غير المعمم منذ محمد علي رجائي.
كما وسعى المتحدث باسم بعثة إيران لدى الأمم المتحدة، علي رضا ميريوسيفي، إلى التقليل من محاولة نجاد، قائلا إن “وجهات نظره (نجاد)، طالما أنه لا يزال مواطنا عاديا مثل العديد من الإيرانيين الآخرين، لا علاقة لها بسياسات الحكومة والإدارة في الوقت الحالي.”
وقد عبر نجاد عبر رسالته عن رغبته في التوسط عبر لجنة “تضم عدداً من الشخصيات الموثوقة عالمياً”، لإجراء محادثات مع الطرفين المتخاصمين في اليمن، بهدف إنهاء الأزمة، وهو بدعوته تلك يبرز انشقاقه عن السياسات الإيرانية الحالية، لأنه يرمز إلى رغبته التوسط بين إيران وطرف آخر.
وقد لا يكون هذا تباينا بينه وبين السياسات الإيرانية، بقدر ما يمثل رسالة انتخابية للداخل الإيراني، فنجاد هو الرئيس الذي تواصل مع العالم العربي، وإن كان تقاربه لم ينعكس على مستوى الأفعال، لكن المواطن الإيراني أصبح يدرك أن تسخين المنطقة وتسخير الأموال الإيرانية لا يجلب إلا الفقر والعوز، والتضخم في أسعار البنزين.
وهذا يعطينا مؤشرا دقيقا لمستوى الضغط الذي وصل إليه الشعب الإيراني بعد العقوبات الأميركية الخانقة، وأن الشعب لم يعد يحتمل رهان الصبر الاستراتيجي الذي دعا له الرئيس روحاني، والذي يعني عمليا الموت جوعا على أمل رحيل الرئيس دونالد ترامب من البيت الأبيض، بالرغم من أنني لا أعتقد حتى أن المرشح الرئاسي جو بايدن سيلغى العقوبات بين ليلة وضحاها.
وتأكيدا على كون رسالة نجاد لولي العهد السعودي رسالة داخلية إيرانية، أشارت النيويورك تايمز إلى أن علاقة أحمدي نجاد مع القيادة الإيرانية تدهورت في السنوات الماضية، وحاول نجاد خلال هذه الفترة أن يفصل نفسه عن سياسات الجمهورية الإسلامية. وفي مقابلة مع الصحيفة العام الماضي دعا إيران للتفاوض مباشرة مع الرئيس ترامب بحكم أنه “رجل أعمال”، وقال إنه كتب ثلاث رسائل للرئيس الأميركي.
ومع ذلك اعتبرت الصحيفة الرسالة التي وجهها إلى ولي العهد السعودي ربما أقوى تحد من قبل أحمدي نجاد للنظام الإيراني.
ولم يكن لنجاد أن يتحدى النظام الإيراني ببطشه وهو جزء منه كعضو تشخيص مصلحة النظام إلا لمعرفته بمقدار الوهن الذي أصاب النظام اقتصاديا، وما مثلته تصفية قاسم سليماني في العراق يناير الماضي، بالإضافة إلى حصد إسرائيل للمواقع الإيرانية وعناصر الحرس الثوري في سوريا، وهي الثورة التي انطلقت حين كان ما زال في سدة الحكم.
في خاتمه رسالته أورد نجاد “إنني على ثقة، بأن سماحتكم في الرد على مطالب شعوب المنطقة والمجتمع الإنساني الواضحة من قبلكم ستقومون بعمل تُذكرون به خيراً ويرضي الله ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه.”
وإنها لشهادة حق، وإن لم يقصدها، نحو قيادة المملكة التي لم تكن دوما إلا حريصة على أمن المنطقة العربية واستقرارها، والذي لا يتمّ في زمننا هذا إلا بالتصدّي للمشروعات الإيرانية والتركية، ولا يكتمل إلا بتعاضد العرب في هذه اللحظة المفصلية.
صحيفة العرب
https://alarab.co.uk/%D9%84%D8%B9%D8%A8%D8%A9-%D8%A3%D8%AD%D9%85%D8%AF%D9%8A-%D9%86%D8%AC%D8%A7%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%8A-%D9%84%D8%A7-%D8%AA%D9%86%D8%B7%D9%84%D9%8A-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A3%D8%AD%D8%AF
الخميس 30 يوليو 2020
اترك تعليقاً