لا أعتقد أنه سبق أن طغى موضوع على كافة نشرات الأخبار وعناوين الصحف مثلما فعل فايروس كورونا “كوفيد- 19”، حيث لا يفرق مواضيع الأخبار إلا موقع الحدث، وتعاطي كل دولة مع هذه الجائحة، بالإضافة إلى زوايا الأثر الذي يصيبه في زوايا الاقتصاد.
حتى أصبحت شاشة زيادة المصابين، طاغية على شاشات البورصة ومدمية لها، وأصبح دخول دول كانت تعتقد أنها بعيدة بما يكفي من الصين إلى قائمة الدول الأكثر إصابة بالفايروس لافتا، خاصة الدول التي يشد لها الرحال للتشافي حين تنقطع السبل، ولا بد أن الناس يشتاقون إلى أيام المعسكر الشرقي، حين كان التنقل أقل، والقطيعة بين المعسكرين أكبر، وكانت الصين بعيدة بالفعل.
وقد تباينت طرق التعامل بين دولة وأخرى، من دول تعاملت بصرامة مع الفايروس وأولها الصين، خاصة من ناحية عزل مدينة ووهان، ودول تراخت وأجلت الإجراءات الاحترازية، ولم تأخذه على محمل الجد، والفارق بين النموذجين في ظني اقتصادي بحت، أكثر من كونه مرتبطا بالوعي الصحي.
المملكة العربية السعودية بادرت بعدة إجراءات احترازية منذ بداية الأزمة، عبر تعليق الرحلات الدولية مع عدة دول، ثم إضافة دول أخرى إليها، وتقييد التنقل بين المملكة ودول الخليج بجواز السفر، دون السماح بالتنقل بالهوية الوطنية، واستمرت في التدرج التصاعدي مع رصد للرحلات القادمة، والعزل الصحي لمدة أسبوعين للقادمين من بعض الدول، وصولا لتعليق الدخول والخروج من المملكة بشكل كامل.
هذه الإجراءات تنعكس على المواطنين والمقيمين، لكن الرياض ذهبت أبعد من ذلك، بتعليق التأشيرات السياحية، التي أطلقتها في سبتمبر من العام الماضي، وعلقت كذلك تأشيرات العمرة، كما بدأت بإجراءات تعقيم مستمر للحرمين، وإغلاق للمسجد الحرام من بعد صلاة العشاء بساعة، حتى قبيل صلاة الفجر بساعة.
وبهذه القرارات تكون أخذت السعودية دورا مسؤولا نحو المسلمين من قاصدي الحرمين الشريفين، وكذلك نحو الزوار من شتى بقاع الأرض، وهذا القرار له تبعات اقتصادية على الدولة، وعلى منظومة الاقتصاد بشكل كامل، من وسائل نقل وفنادق ومحلات تجارية.
لكن الرؤية كانت واضحة بأن الخسارة الحقيقية هي خسارة الإنسان، وعليه استمرت القرارات على نفس المسار، فعُلّقت الدراسة في جميع مدارس وجامعات المملكة، وأغلقت الأسواق التجارية “المولات”، ولأن المخالطة من أهم أسباب انتشار هذا الفايروس، فقد تم تعليق الرحلات الداخلية، والقطارات وسيارات الأجرة.
وقد تبين خلال التعامل مع الحالات الأولى المصابة بفايروس كورونا، وجود أعداد من السعوديين الذين زاروا إيران، رغم وجود قرار بمنع السفر إلى إيران، والذي أعقب قطع العلاقات بين البلدين، إثر اعتداء الباسيج على مقر السفارة السعودية في طهران، والقنصلية في مشهد، والأسوأ أن النظام الإيراني غير المسؤول لم يكن يختم على جوازات المواطنين، وأعلنت المملكة عن عفو لمن يفصح عن زيارته لإيران، لأن سلامة المواطنين من كل المذاهب تعلو على أي خلاف سياسي في ذهنية الرياض.
واضطلعت السعودية أيضا بدورها نحو مجموعة العشرين، عبر الدعوة إلى قمة افتراضية بين القادة، بحكم أن العام 2020 هو عام رئاسة المملكة للقمة، وقد عقد بالفعل اجتماع لوزراء المالية وحكام المصارف في دول العشرين، للتحاور حول التداعيات الاقتصادية لجائحة كورونا، ودعونا لا ننسى أن قمة العشرين كانت تُعقد بوزراء المالية منذ التسعينات حتى الأزمة الاقتصادية في 2008، حين أصبحت قمة على مستوى القادة، بعد استشعار الخطر العالمي والذي لا يستثني أحدا.
ومنذ الاثنين الماضي بدأ قرار حظر التجول الجزئي من السابعة مساء حتى السادسة صباحا، وقد كان لافتا حين خرجتُ ظهر الثلاثاء لمقابلة تلفزيونية، العدد القليل من السيارات في الطرقات، مما يعني نسبة وعي كبيرة بأن الخروج من المنزل يجب أن يكون للضرورة.
ولا بد أن البنية التحتية التقنية التي تم الاستثمار فيها منذ زمن، أسهمت في أن تجعل حياة الناس من منازلها أسهل، فجميع الجهات الحكومية لديها تطبيقات ذكية ومواقع إلكترونية لتنفيذ سائر المعاملات، وجميع المصارف لديها تطبيقات وخدمات عبر الهاتف.
وزارة التعليم كانت في الواجهة منذ البداية بالتعاون مع وزارة الاتصالات لتقديم حلول التعلم عن بعد، والتي ما كان لها أن تنجح دون شبكة قوية للإنترنت، فالسعودية من أول الدول في العالم التي بدأت بتطبيق تقنية الـ5G، والشركات الخاصة بدورها، قامت بتقديم خدمات الإنترنت مجانا لزائري بوابات التعلم عن بعد.
وزارة التجارة قامت بجولات رقابية للتأكد من توفر جميع المواد الغذائية، وزيارة المخازن والمستودعات للتأكد من وفرة السلع الاستراتيجية، وإنزال العقوبات على من يخزّن المعقمات أو الكمامات بهدف بيعها لاحقا بسعر مرتفع، كما أعلنت عن وجود مصانع وطنية للكمامات والمعقمات.
اللاعب الرئيس بلا شك هو وزارة الصحة، فهي رأس الحربة في التصدي لهذا الوباء، مستعينة بالمركز الوطني لإدارة الأزمات والكوارث الصحية، والذي أنشأته الصحة في العام الماضي، حيث يعمل على جمع وتحليل بيانات المستشفيات كافة في السعودية، ليوفر المعلومات لمتخذي القرار من أجل بناء قراراتهم وفقا لها، والتنبؤ بالأزمات والكوارث قبل حدوثها والوقاية منها.
المركز يهدف إلى توحيد البيانات في مختلف مناطق السعودية، إذ يوجد عشرون مركزا منه في مختلف المناطق، العمل عليها مستمر منذ ثلاث سنوات، وهذه المنظومة المتكاملة بالإضافة إلى الأجهزة الأمنية، تتعامل اليوم مع هذه الجائحة جالبة معها خبرات متراكمة لسنوات في إدارة الحشود في الحج، والتعامل مع ملايين البشر من مختلف الجنسيات، في مساحة محدودة.
وإذا ما استمعنا إلى كلمة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، التي توجه فيها للمواطنين والمقيمين، نجدها تعكس العقد الاجتماعي الذي ربط الشعب بقيادته في فترات الرغد وفترات المصاعب على حدّ سواء، من شفافية وصراحة، وتعزيز المسؤولية الجماعية، والتأكيد على أن صحة وسلامة الإنسان هي الأولوية التي لا تقبل النقاش، مهما كانت الصعوبات الاقتصادية العالمية والتي يمثلها كورونا وأسعار النفط المنخفضة.
صحيفة العرب
https://alarab.co.uk/%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%8A%D8%A7%D8%B6-%D9%81%D9%8A-%D9%85%D9%88%D8%A7%D8%AC%D9%87%D8%A9-%D9%83%D9%88%D8%B1%D9%88%D9%86%D8%A7
الخميس 26 مارس 2020
اترك تعليقاً