الخبز الباليستي

شهد التاريخ تراجعا جغرافيا لإمبراطوريات كبرى، امتلكت القوة العسكرية والاقتصادية والدعاية الإعلامية، وحقق لها هذا التوسع الاستعماري مكاسب اقتصادية إضافية، عبر نهب ثروات الدول المستعمرة، لكن هذا التمدد تلاشى وعادت تلك الدول إلى أحجامها الطبيعية.
حدث هذا مع بريطانيا التي لم تكن تغيب عنها الشمس، ومع فرنسا التي غيرت لسان أفريقيا، وإسبانيا التي جعلت أمريكا الجنوبية تتحدث لغتها، تكرر الأمر مع هولندا والبرتغال والاتحاد السوفييتي، وعندما أرادت الولايات المتحدة التمدد في القرن العشرين، أدركت أن القوة الصلبة وحدها غير كافية، ولهذا غزت العالم بأفلام هوليوود وبنطلونات الجينز وساندويتشات الهمبورجر.
هذا التراجع للفكرة الاستعمارية ثم أفكار التمدد الثقافي والاقتصادي، كانت رفيقة توافق دولي على احترام حدود الدول، مع بعض الحارات التي سعت للعب بخيوط الخريطة، سواء جراء حروب بين مكونات داخلية، كما حصل في يوغسلافيا والسودان، أو كما سعت داعش لفعله بين العراق وسورية.
مع تراجع رغبة الدول الكبرى للدخول في حروب مكلفة اقتصاديا وبشريا وسياسيا، عدا بعض التدخلات التي تحصل على طريقة التحالفات، كما قام بذلك الناتو في ليبيا وعدة مواضع أخرى، أو التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب في عملياته في سورية والعراق، تولد في العالم دولتان ترغبان في الاستثمار في العبث، واعتبار أن بناء ذراع عسكرية تحمي النظام ولو كان بلا أقدام اقتصادية أو تنموية، وتحقق الأهم للنظام، وهو الجلوس مع الدول الكبرى على طاولة واحدة، أو على أقله الجلوس مع وسيط.
لكن إيران تأبى إلا أن تتفوق على كوريا الشمالية في أمرين؛ المستوى العبثي رغبة في تدمير دول الجوار، واللباس الديني لهذه الدعاية، وما تستلزمه هذه الدعاية من بهارات، للسنة وللأقليات غير المسلمة في العالم العربي، مما يستدعي حديثا عن المقاومة والقضية الفلسطينية كغبار لا يسمح بالنظر لكون المقاومة مقاومة للشعب وكما في الحالة السورية، أو إرهاب للفرقاء السياسيين بالسلاح كما في الحالة اللبنانية واليمنية.
ما لم يدركه النظام الإيراني أو تستوعبه الأنظمة الجمهورية التي اهتزت في الربيع العربي، هو هذا التأثير الكبير لوسائل التواصل الاجتماعي، وما حققته الفضائيات والإنترنت كفضاء مفتوح، من نوافذ على العالم للأشخاص الذين لم يغادروا قريتهم يوما ما.
لذا يعتبر الوعي هو العدو الحقيقي للأنظمة الشمولية، حيث إن الشعب الإيراني في واقع الأمر لا يريد الموت لأمريكا، التي تمده بمختلف التقنيات التي جعلت الحياة أسهل والعالم أصغر، كما لا يفهم كيف يرغب نظامه في الموت لأمريكا، ثم تظهر كامل أسنان وزير خارجيته محمد جواد ظريف حين يلتقي وزير خارجية الشيطان الأكبر جون كيري.
على نفس الدرجة لا يرى جدوى من ممارسات نظامه الباليستية والنووية، التي أسهمت في سنوات من العقوبات، ولا هذا التمدد والدعم للميليشيات في الدول العربية، بينما يعيش نفس حالة البؤس، وقت العقوبات وبعد انفراجها.
مغامرات الحرس الثوري التي من المفترض أن تحقق خروج المهدي، لا يبرر لها ذلك دخول المليارات إلى جيوب قادتها، وأن يكون الفساد هو عنوان جميع المؤسسات والمشاريع التي يديرها الحرس الثوري، كما أن القدس ليست أهم عندهم من قوت يومهم، حتى يكون لديهم فيلق باسم القدس، ناهيك عن أنه قاتل الشعب الإيراني وقمعه في عدة مناسبات وكأنما يبحث عن القدس في طهران أو مشهد.
خرج الشعب الإيراني ليقول لنظامه، سئمنا من كذبة المحافظين والإصلاحيين، ولا قدسية لمرشد أعلى أو رئيس صوري، خرجوا ليقولوا مقولة جيمس كارفيل «إنه الاقتصاد يا غبي»، لا يرى الإيرانيون أن الصواريخ الباليستية أهم من الخبز، من الصعب على النظام الإيراني تحقيق إصلاحات، لأن الأنظمة الشمولية تخاف إن أعطت أن يطلب الشعب المزيد، وفي الحالتين سيتداعى البنيان عاجلا أم آجلا.

صحيفة عكاظ

http://www.okaz.com.sa/article/1604310/

الاثنين 8 يناير 2018


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *