هذا الإصرار الرائع على أن الإنسان برئ حتى تثبت إدانته، وأن الإدانه لا تثبت إلا بإجراءات محدده ومعروفه سلفا، لم يردنا من التراث القانوني الروماني، ولم تُنتجه أوروبا خلال فترة النهضة، ولم يقدَم مع الأفكار الليبراليه التي غزت العام خلال القرنين الأخيرين، ولم يكن نتيجة من نتائج التحليل الماركسي المادي للتاريخ.
هذا الإصرار على (البراءة حتى يثبت عكسها) جاء على لسان النبي صلى الله عليه وسلم ، قبل أكثر من أربعة عشر قرنا، وفي بيئة قبلية جاهلية لم تسمع، مجرد سماع، بقواعد الأدلة والإثبات …..
عدت مكتئبا من العمل، وهل اكثر من الموت جالبا للكئابه، ذهبت كمن فقد والدا او معلما جليلا، ابحث بين مكتبتي المتواضعه عن أي من كتبه التي تحويها مكتبتي بالكامل، عدا ما تأخر منها، وكأني من أراد وصيه أو رائحه من الذكرى، فوجدت ذاك الكتيب “ثورة في السنة النبوية” وكان ما سقطت عيني عليه هو المقطع الذي اوردته بداية المقاله.
غازي القصيبي يشبه كتابه هذا، فهو بسيط ولكنه عظيم، وقد كان ليبراليا ومتدينا معا وهكذا علمنا أن نكون معتدلين، فقد كان جيش دفاع أمام الصحويين وجسد صورة الليبرالي الذي يبحث عن حرية الفكر وليس عن الانحلال كما يحلو للصحويين توصيفا لليبراليين.
الوزير والشاعر والأديب كان على موعد مع المرض ومعاناته دامت حوالي العام، وحتى على فراش الموت أبى قلمه أن يمرض أو يموت، حتى ختم بكتابه “الوزير المرافق”.
الكتابه عن غازي القصيبي، بل وعن رحيل غازي القصيبي بالنسبة لي، ليس متعة تبتغى، ولا سبيل لتنفيس الهموم، بل هو واجب من تلميذ لأستاذه، وسأشعر بالذنب إن لم أكتب عنه، فقد علمني الليبراليه، وحببني في الكتاب، وجعلني أعشق الروايه، وغريب كيف جمع بين بروتوكولات الوزارة والسفارة، ورقة وسلاسة الأديب الشعبي، فما زلت أذكر أني قرأت شقة الحرية في يوم واحد من شدة جاذبية النص وترابطه.
لم ألتق أبويارا وطالما حلمت، وأعلم كم تمنى ذلك من جيلي كثير، قتلت الوظيفة فيني حب الكتابة والقراءة كثيرا ، وتلك من أسباب التفكر التي تسألت فيها، كيف أنا الموظف العادي فشلت على الإستمرارية في نشر مقال أسبوعي، وكيف أستطاع الوزير صاحب المهام الخاصة والعامة والمسئوليات الكبيره، الأب والجد والزوج، كيف أستطاع مداومة النشر للروايات والدواوين والكتب، فما وجدت جوابا إلا كم عظيم أنت يا غازي ..
ظروف الحياة التي أخرت المقال أياما، سمحت لي بأن أقرا مقالات عديدة في رثاء فقيد الوطن، ولم أجد جديدا في ذكر سيرته الإدارية ولكن لابد من ذكر مراحله اقتضابا، فقد مر رحمه الله من سكه الحديد إلى وزارة الصناعة والكهرباء ويعد مؤسسا لسابك، ثم وزارة الجدل وزاره الصحة وأدائه -رحمة الله عليه- الغير مسبوق، مرورا بسفارتي البحرين وبريطانيا، حتى عاد للوطن كأول وزير للمياه، حتى اختتم عمله وزيرا للعمل.
لا ينكر إلا جاحد أن د.غازي القصيبي شخصية فريدة من نوعها، قلما تجود بمثلها الأوطان، ولعلي سأحاول أن ألخص ما أراه من أبرز دواعي تميزه عن أقرانه، وما جعله نابغة من نوابغ عصره، عسى أن نستفيد وأياكم منها:
· لا شك أن أول الدروس التي قد نستفيدها من د.غازي هو قيمة العلم، فقد حرص على الحصول على الدكتوراه، رغم ان حامل الثانويه في عصره كان شيئا عظيما.
· إدارة الوقت: القدرة العجيبة للدكتور غازي على العمل وزيرا وسفيرا لساعات دوام طويله مع ما يستلزمه ذاك من سفر وترحال وإجتماعات، إستطاع أن يكون له إنتاج أدبي منوع وثري وضخم.
· اخيرا: اختلف القصيبي مع السلفيين ردحا من الزمن وتبادلوا قصائدا من سئ القول وأحسنه، وعانى الأمرين من خصوم عده إبان وزارته للصحه والعمل، وشن حرب ضروس كدرع للوطن في مقاله الشهير “عين على العاصفه” الذي كان ينشره في الشرق الأوسط ردا على أبواق صدام، ولكن لم يذكر عنه يوما سوى “نظافه اليد”، ولو كان هناك ذره فساد لما رحمه معادوه، ولشهروا به.
غازي القصيبي عشت عظيما ومت عظيما في شهر عظيم، ندعو لك بالرحمه، نحسبك ممن راعى الله في عمله ووطنه…
غازي القصيبي درس بدأ،،
20 أغسطس 2010
اترك تعليقاً