كثيرون ممن صنعوا التاريخ ربما لم يدركوا عظمة اللحظة، وكان إدراك من حولهم بعظمة الموقف أقل بالضرورة، السعودية اليوم لا تعيش فقط لحظة تاريخية، بل تعيش حقبة تاريخية بكامل المواصفات، ليس لأن عبدالله بن عبدالعزيز حاكم مختلف، ولكن القدرة على التعامل مع المنطقة في فترة الأمواج المتلاطمة، تدل فعلاً على أن التاريخ يُصنع بجدارة في السعودية. وحتى لا يكون هذا الكلام من باب التطبيل السياسي، أو يعد نفاقاً سياسياً نحتاج إلى أن نعود إلى بعض الأحداث والمواقف المفصلية «لأبي متعب»، على رغم أن محبة الملك عبدالله أو الإعجاب بمواقفه العروبية والداعمة لخير المسلمين هو أمر طبيعي، ولا يمكن أن تملك مشاعر مغايرة، إلا إن كنت عدواً لخيرية العرب والمسلمين، أو ممن وصمهم الملك عبدالله في كلمته الأخيرة بأنهم «يحقدون حتى على أنفسهم». المواقف العظيمة كان آخرها خطاب الملك الأخير، وهو خطاب حياة، خطاب يتصدى للموت كفكرة، خصوصاً والموت أصبح مباهاة، وأعداء الحياة أصبحوا يتأنقون بصور الجماجم خلفهم، وكأنها مومياء فرعونية في صناعة لتاريخ من رفض المستقبل، وهو نهج لو ساد لا قدّر الله، لم يبق أحد ليذكر هذا التاريخ لأننا سنكون جماجم.

 منطقة الشرق الأوسط لا تعيش أمواجاً متلاطمة وحدها، هدفها الرئيس تفتيت دول المنطقة إلى مقاسات أصغر من سايكس بيكو، بل وتفتيتها بشكل «إثني» وطائفي، مما لا يجعل إسرائيل كدولة يهودية هي الشذوذ، بل القاعدة، يلحقها جنوب السودان ثم كردستان، ويتمنى أوباما أن تنفرط باقي فصوص السبحة، لا سيما مصر والسعودية، وبالطبع تسبقهم سورية والعراق وليبيا. المخطط الذي كشفه الملك عبدالله في سياسات التصدي لإيران في عبثها في سورية واليمن، ومنع الغرب من تدمير مصر بحكم «الإخوان» للدولة الأم عربياً، إضافة إلى إدراك نهج أوباما المتخاذل سواء أكان في الشأن الفلسطيني، أم في سورية وباقي المنطقة، مما جعل التدخل في ليبيا هو التدخل الأخير.

 هذا التخاذل الذي مارسه أوباما غيّر من ميزان القوى عالمياً وعربياً، فكسر قاعدة القطب الأوحد، والتي عمل عليها جورج بوش الأب خلال الحرب الباردة إبّان رئاسته لـ CIA، ثم أكد عليها عبر تدخله في تحرير الكويت، لأن الدول الكبيرة التي تعدّ نفسها حامية للقانون الدولي ولاتفاقات مجلس الأمن، لا تسمح لكل نزق يقرر غزو دولة جارة له أن يفعل ذلك، وهو ما سمح به أوباما في جورجيا ثم أوكرانيا، واليوم يسمح به داعشياً.

 مواقف الملك عبدالله من الدعم الكامل لخيارات الشعب في مصر، ورفض شعب مصر للسرقة السياسية تحت رايات الدين، وتصديه بحزم للطموحات التوسعية لا سيما في البحرين، أكدها أيضاً عبر موقف السعودية غير المسبوق عالمياً برفض مقعد غير دائم في مجلس الأمن، مما عُد رفضاً لسياسات أميركا في المنطقة، قبل أن يكون اعتراضاً على مجلس الأمن الصوري، والذي تستخدم فيه الولايات المتحدة حق النقض ضد أي قرار يجرم الدولة المجرمة إسرائيل، وتستخدمه روسيا كلما دفعت إيران ثمن النقض لشرعنة قتل الأسد لشعبه.في زمن ضحت أميركا بمكانة القطب الأوحد باختيار شعبها المحض لباراك أوباما، الذي كان يجب أن يكون قسيساً أو محاضراً لأن السياسة لا تأتي بالخطابات وحدها، قامت روسيا بمنافسة أميركا واتخاذ قرارات منفردة جعلت لها أثراً في دول عدة في الشرق الأوسط وأوروبا.

 كانت السعودية والحزم السياسي المعروف عن الملك عبدالله، هو الثقل السياسي والديموغرافي الذي ملأ الفراغ الأميركي الاختياري، الملك عبدالله كان واضحاً قبل زيارة أوباما في آذار (مارس) الماضي، إذ سبقها بيان سعودي واضح عن تجريم المنظمات الإرهابية وعلى رأسها «داعش»، واليوم يعود بخطابه القوي والذي يبدو مقدمة لمواقف أقوى ضد الإرهاب، والذي تكشفت الأقنعة عن داعميه، وربما يصح وصف خطاب الملك الأخير بأنه صناعة للتاريخ في وجه صناعة الموت.

صحيفة الحياة

http://alhayat.com/Opinion/Abdulrahmaan-Al-Toriri/3949531/

الاثنين 4 أغسطس 2014


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *