الخلاف مع قطر يمثل أنموذجاً لطبيعة العلاقات العربية ما بعد «الربيع العربي»، إذ لم يعد «حب الخشوم» هو المشهد على الشاشات، و«تحاذف العقل» هو الواقع في الغرف المغلقة، بل أصبح الكل يعرف معظم الحقيقة، ويدرك مواطن الاختلاف والاتفاق.
في الاجتماع العربي الأخير في الكويت لم يكن هناك أي شيء يدعو إلى التفاؤل: السعودية بدا أن أسباب اعتراضها على النهج القطري ثابتة، ولن تحيد ما بقيت القيادة في قطر بحرسها القديم والجديد على النهج نفسه. المصريون كانوا أكثر تشنجاً من قطر، ولاسيما وهم يشهدون استهدافاً لعناصر أمنية بشكل يومي، من الأطراف التي تبدي قطر وحدها التعاطف معها. حتى من استمع إلى الخطاب القطري يرى أن التفاؤل ذهب عنه أيضاً، فتلك الكلمات تبدو من لغة ٢٠٠٩ إبان غلق المعابر بين مصر وقطاع غزة، وما كان يسميه إعلام «الجزيرة» حصار غزة ، ويسعى من خلال ظاهر التعاطف مع القضية الفلسطينية الضغط على نظام مبارك آنذاك، ملهباً المشاعر الشعبية بصور المرضى والمسنين، من دون صور للأسلحة المهربة أو للأنفاق، والخطاب القطري في الكويت استعاد اللغة المتذاكية نفسها، من دون اختلاف إلا في تقدير المستمعين إلى هذا الخطاب.
وبالعودة إلى تاريخ العلاقات مع قطر منذ أواخر التسعينات يدرك أن الخروج عن النسق هو الأصل والاتفاق في بعض الملفات هو الشذوذ، وهو نمط عماني مارسته قطر بصوت أعلى عبر حنجرة «الجزيرة»، وعندما سُحِبَ السفراء كان لافتاً في الصحف القطرية أخبار الاتصالات مع القيادة في تركيا وفي عمان، كمؤشر على الحلفاء في نظر قطر.
كان مستغرباً كذلك دعم قطر بعد حرب تموز لحزب الله اللبناني، والتحالف مع النظام العلوي في سورية، ومن ثم تمثيل الصوت الخليجي في المحور الإيراني، ولم يكن لهذه السياسة من تفسير سوى «البحث عن الظهور»، وهذا الهدف لم يكن ليتحقق لو كانت قطر دعمت تيار الاعتدال، الذي مثلته حينها السعودية – مصر – الأردن.
السبيل الثاني لفهم النهج القطري هو تحديد الرموز، إذ اعتبرت قطر السعودية رمزاً للثقل الإقليمي، وحاولت منافسة السعودية، أحياناً عبر إفشال اتفاق الفلسطينيين في مكة، عبر اللعب بورقة «حماس» الإخوانية، المحسوبة على ما سُمي حينها بمحور الممانعة، حتى أدى الأمر إلى انقلاب «حماس» في غزة، وهو ما أدى إلى تقسيم الصف الفلسطيني بدلاً من توحيده ضد العدو الإسرائيلي.
وأحياناً كانت مجاراة السعودية هو مسعى قطر، وكانت أبرز صور ذلك هو اتفاق الدوحة عام ٢٠٠٨، تقليداً لاتفاق الطائف، ولأن البذخ المالي وحده لا يكفي كان اتفاقاً هشاً لم يدم طويلاً، وربما لم يعد يتذكره الكثيرون.
وكذلك كانت استضافة الفرقاء السودانيين لمحاولة البحث عن اتفاق سلام بين الشمال والجنوب، إذ لم يلبث أن أصبح حبراً على ورق، والأسوأ أنه أدى إلى أول انقسام في شكل الدولة العربية الحديثة.
الإمارات مثلت الأنموذج الاقتصادي الجاذب سياحياً، التي سعت قطر إلى مجاراته عبر استضافة بطولات تنس عالمية، وصولاً إلى ربح استضافة كأس العالم ٢٠٢٢ ، ولكن ظل صوت الطحن أكثر من الدقيق.
وكانت الكويت بدرجة أقل أنموذجاً ديموقراطياً حاولت قطر مجاراته، ففشلت بسبب قلة عدد السكان، وهو ما لم يعطِ الديموقراطية زخماً، وكذلك لأن النظام الذي يسجن شاعراً قال قصيدة صباحاً ويروِّج للرأي الآخر مساء لا يمكنه تسويق ذلك محلياً، ولهذا كان السعي إلى الصيت الخارجي أكبر. اليوم، وبعد فشل «الإخوان» كأكبر استثمار قطري – ولاسيما في ليبيا والدولة الأم مصر – سعت قطر إلى استعادة العزف القديم على لحن المظلومين والمعارضة، وهو اللحن الذي لم يعد يطرب أحداً، وحتى ملف اليأس العربي في فلسطين لم يعد يختزله أحد في نفق أو معبر.
وما خرج على الطاولة أخيراً هو الدعم القطري لمعارضة بحرينية وإماراتية، إضافة إلى عناصر إرهابية في مصر، مثلما سمعنا سابقاً عن تمويل نواب كويتيين محسوبين على تيارات بعينها. وخلاصة هذا السرد هو الرد على المتسائلين عن توقعات مصير الخلاف مع قطر، وهل من نافذةِ أمل بعد أن أُغلقت أكثر من نافذة سعت الكويت إلى فتحها؟ وفي ظني أن الفاهم لنهج السياسة القطرية يدرك أن التراجع القطري ليس مطروحاً، ومن المتوقع أن تستمر قطر في التصريحات الأخوية والممارسات المناقضة لذلك، تماماً كما كانت ترعى الأصوات المطالبة بخروج القواعد الأميركية من جزيرة العرب، ثم استقوت بها حين أصبحت القواعد في جزيرة الغاز.
صحيفة الحياة
http://alhayat.com/Opinion/Abdulrahmaan-Al-Toriri/1487090
الاثنين 31 مارس 2014
اترك تعليقاً