رؤية السعودية قبل الجائحة

في زمن جائحة كورونا، فرصة للتأمل في طرق تعامل كل دولة مع هذه الأزمة، وتباين الاستعدادات من دولة إلى أخرى، وكيف أنّ دولاً صناعية مهمة لم تكن لديها القدرة السريرية الكافية لاحتضان المصابين، ولا القدرة الإنتاجية لتوفير المستلزمات الطبية الضرورية من كمامات ومعقمات وخلافه.

فيما دول أخرى تجد دائما في الكذب ونظرية المؤامرة مخرجا فقهيا للجائحة، وعلى رأسها إيران، لكن في نهاية الأمر لا يسأل المريض الإيراني هل هذا الوباء أتى من الصين وانتشر بين البشر، أم أنه مؤامرة من الشيطان الأكبر لتدمير ولاية الفقيه. هو يسأل ببساطة، لماذا جعلت حكومته اليمن وغزة ولبنان أولى بالتمويل من مستشفى في مدينته، يوفر له سريراً ورعاية طبية يستحقها وهو مواطن لدولة من أكثر الدول التي تمتلك مخزونات من النفط والغاز.

ولأن الطريقة الأنجع للوقاية من هذه الجائحة هي البقاء في المنزل، وبالتالي بقاء السيارات لا تتحرك لأيام، والطائرات متوقفة في مدرجاتها بعيدا عن أي فرصة إقلاع، فقد تهاوت أسعار النفط مجددا لأرقام غير مسبوقة في التاريخ، رغم ما تم الاتفاق عليه في اجتماع أوبك +، أو ما قد يسميه البعض أوبك ++، بحكم أن هناك تعهدا من دول خارج إطار أوبك+ القائم منذ ثلاث سنوات، مثل الولايات المتحدة والنرويج والبرازيل وكندا، بأن تقوم بتخفيضات من ناحيتها، لتخفيف الفائض في الكميات الذي أدى إلى إغراق الأسواق وهبوط الأسعار، إلا أن الانخفاض الأخير يمكن أن نطلق عليه انخفاضا لأسباب اقتصادية لا نفطية.

وما حصل خلال الفترة الماضية في السوق النفطية، منذ خروج وزير الطاقة الروسي ألكسندر نوفاك من اجتماع أوبك+ مارس الماضي، ليقول إنه منذ بداية أبريل الجاري على كل المنتجين أن يفعلوا ما يحلو لهم، وهم في حلّ من أي التزام بآلية خفض الإنتاج، وصولا إلى الانخفاض الحاد هذا الأسبوع، يقود هذا إلى خطورة الاعتماد على سلعة واحدة في بناء ميزانيات الدول، وهي سمة في أغلب المنتجين حول العالم، ربما بدرجة أقل في النرويج فقط.

وتقليل الاعتماد على المداخيل النفطية هو العنوان العريض لرؤية “المملكة 2030”، حيث حسمت المملكة العربية السعودية أمرها بأنها لن تبقى أسيرة لسلعة واحدة، وبالتالي بدأت في تنويع سلة مداخيلها حيث بدأت في سبتمبر الماضي منح التأشيرات السياحية لمواطني 49 دولة، ثم توسعت الدائرة لتشمل أي شخص يحمل في جوازه تأشيرة للولايات المتحدة أو تأشيرة الاتحاد الأوروبي “شينغن”.

وشهدت في العام الماضي مواسم المناطق، والتي جمعت بين الفعاليات العائلية والمغامرات للأطفال والعروض المسرحية والغنائية، وأسهمت في رفع نسبة السياح الخليجيين وتقليل أرقام سفر سكان المملكة للخارج، وتعزيز مفهوم برنامج رئيسي في رؤية المملكة وهو برنامج “جودة الحياة”.

وهذا البرنامج يستهدف تعزيز ممارسة الأنشطة الرياضية في المجتمع، وتطوير وتنويع فرص الترفيه لتلبية احتياجات السكان، بالإضافة لتنمية المساهمة السعودية في الفنون والثقافة، وربما شهدنا خلال عام واحد من تأسيس وزارة الثقافة، بعد أن كانت جزءا من وزارة الإعلام سابقا، كمية الحراك الثقافي في المملكة على مستوى الشعر والمسرح والفن التشكيلي والأزياء.

وتأتي “رؤية المملكة” لترتكز على مكامن القوة لديها، وهي العمق العربي والإسلامي، والقوة الاستثمارية، وأهمية الموقع الجغرافي الاستراتيجي، وبالتالي نجد هناك استفادة من التنوع الجغرافي الذي تحظى به المملكة، من العلا التي تحتضن إرثا تاريخيا يعود إلى الآلاف من السنين حيث كانت العاصمة الجنوبية لمملكة الأنباط، والتي تحظى بعدة مواقع تاريخية مهمة وعلى رأسها الحجر، وهو أول موقع سعودي يدرجه اليونسكو على قائمة التراث العالمي، إلى مشروع آخر وهو مشروع البحر الأحمر، والذي سينفذ بالتعاون مع أهم وأكبر الشركات العالمية في قطاع الضيافة والفندقة، لتطوير منتجعات سياحية استثنائية على أكثر من 50 جزيرة طبيعية، وجميع هذه الجزر وهي جزر بكر لم تستخدم من قبل، وتتميز المنطقة بتنوع الحياة النباتية والحيوانية، بالإضافة إلى تجربة مختلفة مع الشعب المرجانية لهواة الغوص، إلى عدة مشاريع أخرى مثل أمالا ونيوم والقدية.

وفي رؤية المملكة لتنويع الاقتصاد وتقليل الاعتماد على النفط، كان هناك تركيز كبير على تطوير الصناعة، بحيث تزيد المملكة من صادراتها غير النفطية، وتتميز الصناعات السعودية بالجودة العالية وبالالتزام بأعلى المواصفات العالمية، وتُعرف المنتجات السعودية في الأسواق العربية بسمة الجودة.

السعودية غيرت من منهجيتها في السنوات الأخيرة تجاه المعادن، حيث اتجهت إلى تطوير مشروعات التعدين عبر الشركات الوطنية، ومن خلال القيام بعدة خطوات لتسهيل الإجراءات على المستثمرين في هذا المجال، حيث خفضت عدد الخطوات للمستثمرين والمدد التي تستغرقها كل خطوة، وزيادة الخطوات التي تتم إلكترونيا، فمثلا تجديد رخص محاجر البناء تقلصت مدته من تسعين يوما إلى سبعة أيام.

وفي التغيير الوزاري الأخير فصلت الحكومة السعودية بين وزارة الطاقة ووزارة الصناعة والثروة المعدنية، مما يبرز الاهتمام الكبير بقطاعي الصناعة والتعدين، ومن أول مشاريع التعدين الذي دشن مرحلته الثانية العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز قبل أكثر من عام، مشروع وعد الشمال، والذي تُشير التقديرات إلى أنه سيؤدي إلى تحقيق زيادة في إجمالي الناتج المحلي من القطاعات غير النفطية تصل إلى 3 في المئة، وهو ما يعادل 24 مليار ريال سنويا، والمرحلة الثانية تستهدف وصول إنتاج السعودية من الفوسفات إلى 9 ملايين طن سنويا.

كما أن المطلع على مختلف المشاريع السياحية والصناعية، سيشهد نقطة لافتة وهو التنوع الجغرافي للمشاريع، مما يسهم في خلق وظائف ونمو مستدام في أغلب مناطق المملكة، ويحد من الهجرة نحو العاصمة والمدن الكبرى، ما يحقق المزيد من التوازن السكاني.

الأوقات الصعبة لا ينجو من ضررها أحد، خاصة حين يقرر كوفيد – 19 تعطيل أي حاجة لبراميل النفط، ولكن التخطيط في أوقات الرخاء هو ما يجلب ضررا أقل وقت الأزمات، وخروجا أقوى منها.

جريدة العرب
https://alarab.co.uk/%D8%B1%D8%A4%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B9%D9%88%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D9%82%D8%A8%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%A7%D8%A6%D8%AD%D8%A9
الخميس 23 أبريل 2020

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *