يبدو أن الرؤية الخارجية للإدارة الأمريكية في عام الانتخابات، اتسمت بتفهم لحاجات تركيا الاقتصادية، والتي دفعتها نحو التدخل في سوريا وليبيا، على أن يكون في مقابل ذلك دور تركي لا يجعل المهمة الروسية سهلة في البلدين.
هذا استدعى بالنتيجة أن لا يكون هناك دعم أمريكي للموقف اليوناني والقبرصي أو حتى المصري، رغم أنها أطراف من الناتو، وحليف مهم في الحالة المصرية، والموقف واضح أنه اعتداء من تركيا على مناطق بحرية ليست لها.
الملف الليبي -تحديداً- هو الملف الوحيد الذي تدخلت فيه الولايات المتحدة عسكرياً من ضمن جميع الدول التي تعرضت للربيع العربي، ويمثل مؤشراً يتكرر في الأداء الأمريكي منذ غزو العراق في 2003، وهو غياب إستراتيجية اليوم الثاني بعد إسقاط النظام.
وفي النموذج العراقي يتضح أيضاً عدم العناية بالتفاصيل، والناتجة غالباً من غياب الفهم المعمق لمكونات النسيج المجتمعي، فلا يعني أن تسقط صدام لأنه سني، وتأتي برئيس وزراء شيعي أنك حليت مشاكل العراق، وحتى في سوريا لا يعني إسقاط الأسد والإتيان برئيس سني، أن سوريا ستصبح غداً سويسرا.
ناهيك عن رومانسية فكرة تصدير الديموقراطية، والتي أثبتت أنها فكرة غير قابلة للتصدير إذا لم تكن نابعة من المجتمع، وهذا لا يخص الشرق الأوسط فقط، فلدينا عدة تجارب في عدة بقاع من العالم مثل أفريقيا وأمريكا الجنوبية.
وحين أعلنت اليونان قيامها بمناورات بحرية وذكرت فرنسا أنها تشارك في هذه المناورات بثلاث طائرات رافال وفرقاطة، ظهر التصريح التركي حول سفينتين عسكريتين تركيتين أجرتا تدريبات عسكرية مع مدمّرة أمريكية في شرق البحر المتوسط، مما كانت تلويحاً مباشراً إلى مباركة أمريكا للتدخل التركي في ليبيا.
التدخل التركي أيضاً في العراق وقبلها في سوريا، لا يمكن أن يتم دون موافقة أمريكية، ففي نهاية اليوم هذا جيش من جيوش الناتو، وربما يجب النظر للملاعب الثلاثة لفهم الصورة الكاملة.
ففي الملعب العراقي لا يمكن أن يكون الوجود التركي بديلاً عن التواجد الأمريكي، لأن تركيا ليست بوارد التصادم مع إيران، خاصة مع النفوذ الموجود لميليشيات طهران، ولا التدخل في سوريا هو للتصدي للإيرانيين لكنه تدخل لا يجعل مهمة موسكو سهلة، وإنما هو تدخل يتيح لأردوغان تشتيت الجيش في أكثر من موضع، ويسمح له بالتصدي لكرة وصل السليمانية وأربيل من الجانب العراقي، بالقامشلي والحسكة وباقي المناطق الكردية الخالصة أو حتى المختلطة.
وبالتالي يأتي الدور المطلوب من تركيا، عبر التدخل في ليبيا وبأموال قطرية، وهو تدخل غير مكلف، بل سيمثل عائداً اقتصادياً لتركيا، في مقابل ضمان توازن في الملف الليبي، لا يسمح لروسيا بمحاصرة أوروبا من الجنوب، خاصة والإدارة الحالية تعرف جيداً كيف سارعت موسكو لحسم ملف حلب قبيل الانتخابات الأمريكية السابقة.
والثمن المقدم أمريكياً هو الدعم غير المباشر للمناورات البحرية والأهم السماح لأنقرة بالتنقيب وتعويض بعض الخسائر التي يعاني منها اقتصادها، بالإضافة بطبيعة الحال إلى عدم الممانعة من تواجد تركي في كل من العراق وسوريا.
هذا التعامل من إدارة ترمب في عام الانتخابات مع الملف الليبي وإدارة أردوغان، ربما ما يمنحنا تفسيراً لإحدى زوايا حديث جو بايدن مع صحفيي نيويورك تايمز حول أردوغان، والذي حاول من خلاله أن يمايز في سياسته الخارجية عن الإدارة الحالية، لكنه تمايز أيضاً عن عقيدة أوباما.
جريدة عكاظ
https://www.okaz.com.sa/articles/authors/2038899
الجمعة 28 أغسطس 2020
اترك تعليقاً