كانت السعودية من أولى الدول التي اتخذت إجراءات احترازية متحفظة جدا، بمجرد وضوح بعض معالم فايروس كورونا، وقدرته السريعة على الانتشار، وعلى الفتك بكبار السن ومن يعانون من أمراض صدرية.
عنوان الإجراءات كان وضع صحة المواطنين والمقيمين وزوار المملكة أولا، حيث تم تعليق الدراسة في المدارس والجامعات، والبحث عن حلول تقنية بديلة، لإتمام السنة الدراسية من المنازل، وإجراء الاختبارات كذلك، كما تم تفعيل العمل من المنزل للكثير من القطاعات.
تجنبت المملكة الأنانية الاقتصادية التي طغت على الكثير من الدول خاصة الغربية، وعلقت بشجاعة بالغة تأشيرات السياحة، والتي أطلقتها في سبتمبر من العام الماضي، مراهنة على أن تكون السياحة رافدا رئيسيا وموردا غير نفطي مهما للمملكة العربية السعودية، خاصه لما تتمتع به المملكة من تنوع جغرافي شاسع، وتنوع ثقافي وتاريخي ثري.
كما قامت المملكة بتعليق العمرة، وإغلاق الحرمين الشريفين وقبلها الحد من دخول الناس، إلا في فترات الصلوات من الفجر حتى العشاء، حيث كان يغلق الحرم المكي، بعد نهاية صلاة العشاء بساعة ولا يفتح إلا قبيل الفجر بساعة، وهذا الأمر مثل تحديا اقتصاديا آخر، ومثّل بطبيعة الحال تحديا سياسيا.
خاصة ونحن نعيش في منطقة تكنّ فيها الأطراف غير العربية العداء للمملكة، باعتبارها الصخرة التي وقفت ضد مشاريع التفتيت، التي هيأ لها غزو العراق في 2003، وأكمل مسيرة الفوضى فيها الربيع العربي، وأعني بذلك المشروع التركي والإيراني، الذي سُخرت له أطراف عربية تسهم وتمول وتطبل لهذه الأجندة وبالتالي للنيل من المملكة، وعلى رأسها إمارة قطر وجماعة الإخوان المسلمين.
لكن المملكة مضت في إجراءاتها الاحترازية ولم تعبأ بالأبواق الإعلامية المعادية، وعلقت الرحلات الداخلية، والرحلات القادمة للمملكة، لتحد من دخول المصابين للمملكة، ويبقى الهدف الأساسي، التأكد من السيطرة على عدد الحالات الإيجابية، بحيث لا تتجاوز السعة السريرية الموجودة، خاصة على مستوى العناية المركزة، وهو ما ينطبق أيضا على الأجهزة والمستلزمات الطبية الموجودة.
وبالطبع كان لكورونا انعكاس كبير على الطلب العالمي على النفط، وبالتالي على اقتصاد المملكة، كما على كل اقتصادات الدول المنتجة، بالإضافة إلى التحدي الذي مثله خروج روسيا من اتفاق أوبك + في مارس الماضي، ولكن ردة الفعل السعودية وربما غير المتوقعة، أدت إلى أن يقتنع الجميع بأن المركب حين يغرق لا يختار بعض الركاب للغرق، وإنما يغرق بالجميع، كما أن القدرة السعودية للبقاء تحت الماء أكبر من غيرها.
وبالتالي مثّل إغلاق السياحة وبقاء الناس في منازلهم، مما يعني تعطيل الكثير من الأعمال التجارية، تحديا كبيرا لمداخيل السعودية الاقتصادية، بالإضافة إلى الانخفاض في أسعار النفط، وهو ما وصفه الرئيس ترمب بوصف دقيق، حين قال إن سبب انخفاض أسعار النفط يعود إلى أسباب اقتصادية لا نفطية، وهو يعني أن هذا طبيعي ما دامت الطائرات والسيارات والمصانع متوقفة.
الخطوة السعودية اللافتة كانت دعم القطاع الخاص، بحوالي تسعة مليارات ريال، بحيث تتكفل الدولة بجزء كبير من رواتب الموظفين السعوديين في بعض القطاعات الأكثر تأثرا، حيث أدركت الحكومة خطورة ارتفاع نسب البطالة في المجتمع، وهي خطوة مهمة وصعبة في ظل التحديات الاقتصادية الحالية، إذ تجاوز الدعم الإضافي للقطاع الصحي المئة مليار ريال.
وخلال الأزمة خرجت القيادة السعودية ممثلة في خادم الحرمين الشريفين، بخطاب مسؤول وشفاف حول واقع الأزمة والتحديات الراهنة، مشددة على أن صحة الإنسان تأتي أولا، وأنه رهان لا مناص عنه للمملكة.
وتوالى ظهور وزيري الصحة والمالية أيضا، حيث عبّر وزير الصحة عن السيناريوهات المطروحة، معلنا أن المملكة ستكون بين سيناريو العشرة آلاف مصاب والمئتي ألف مصاب، وأن ذلك مرتبط بالتزام الناس بالبقاء في منازلها، والتباعد الاجتماعي وعدم الخروج إلا للضرورة القصوى.
وزير المالية السعودي محمد الجدعان، خرج أيضا بخطاب واضح حول مرحلة شد الحزام، وهو أمر يدرك كل الاقتصاديين أنه خيار لا بد منه، فهو الخيار الوحيد الذي يحفظ استدامة الميزانية، وهو مرتبط أيضا بالاستدانة المتوازنة لتغطية النفقات المهمة وعلى رأسها النفقات الصحية.
ومن القرارات التي صدرت رفع ضريبة القيمة المضافة من 5 في المئة إلى 15 في المئة بداية من يوليو المقبل، وهو قرار قد لا ينعكس على المستهلك بشكل مباشر، إذا ما قام القطاع الخاص بخفض سعر المنتج، تبعا لخفض أسعار البنزين بنسب تقارب الخمسين في المئة، كما أنه مرتبط بالقيمة المضافة لا الدخل، مما يعني أنه مرتبط بمصاريف الناس لا مداخيلهم.
من المفهوم أن الحياة بطبيعتها تدور بين سنين عجاف وأخرى سمان، وتكون الدول والأفراد والمنظمات التي أحسنت إدارة مداخيلها في السنوات السمان، أقدر على تحمل ضربات السنين العجاف، بل ربما منح ذلك المملكة القدرة على اقتناص بعض الفرص الاقتصادية، التي أصبحت بتكلفة منخفضة جدا تبعا للجائحة.
التحديات الاقتصادية صعبة بلا شك، وقد تضطر الحكومة لمزيد من الإجراءات، خاصة إذا استمر الإغلاق العالمي، وبالتالي بقيت مستويات الطلب على النفط، أقل بأكثر من 25 مليون برميل عن معدلات الطلب في 2019، وعن معدلات الخفض المتفق عليها في مايو الجاري.
ولكن السعوديين لم يثبتوا فقط أن العقد الاجتماعي الذي يربطهم بالقيادة لا ينفك في الضائقات، بل يزداد توثقا وإيمانا بأن حماية وطنهم واجب، والصبر على الملمات هو المعين لتجاوز الغمة، والثقة بأن العودة مجددا للازدهار وتفعيل خطط ومشاريع رؤية المملكة 2030 مسألة وقت.
السعوديون في إدراكهم للضائقة الحالية، وخاصة ونحن في شهر رمضان المبارك، أظهروا حسا عاليا على عمل الخير عبر أكثر من مبادرة، منها جود الإسكان التي تيسر لها التبرع بمبالغ الإيجار السكني للمتعثرين، وبرنامج آخر لدفع ديون المساجين في قضايا مالية، والذين ربما تكون أسرهم في أشد الحاجة إليهم، بالإضافة إلى برنامج زكاتي، والذي تقوم من خلاله مصلحة الزكاة والدخل، بتحويل التبرعات مباشرة للمحتاجين المسجلين في الشؤون الاجتماعية.
اترك تعليقاً