لا أحسب أن صحفيا مر من رواق أي منتدى إعلامي خلال العقدين الماضيين، إلا واستمع لندوة عنوانها «هل ستموت الصحافة الورقية»، ومع مرور السنوات أصبح السؤال أكثر قسوة «متى ستموت الصحافة الورقية».
هذا النقاش القديم الجديد وبعد أن ركدت مياهه، هبط عليه حجر كبير مع أحد أقدم رؤساء التحرير في العالم العربي الأستاذ خالد المالك، حين كتب مقالا واصفا الحالة الاقتصادية للصحافة الورقية في المملكة تبعا لتراجع الإعلانات، وضرورة تدخل الدولة لحماية المؤسسات الصحفية، كما فعلت حين حولت الصحافة من صحافة أفراد إلى مؤسسات صحفية.
على تويتر جرى حديث من عديد من الزملاء بعد مقال المالك، أزعم أن الحديث كان هذه المرة أكثر جدية ومعرفية، وتطرق عدة زملاء منهم الدكتور سعود كاتب، إلى تجارب غربية وكيف نجحت النيويورك تايمز وغيرها في تقليل الاعتماد على الإعلان في النسخة الورقية، ولدينا أيضا تجارب لرواد في الترجل من المركب الورقي إلى مراكب أخرى.
في بداية الألفية أمسك الأستاذ عثمان العمير بلوحة المفاتيح، مطلقا «إيلاف» أي أن تألف الموضع وتلزمه، وقد ألفه الكثيرون من بعده، حتى تحولت الصحافة الإلكترونية لموضة، ولكنها أخذت على مستوى الفكرة لا التطبيق، تماما كما فعلنا مع «الاحتراف الرياضي»، فأصبح لكل 5 أشخاص موقع إلكتروني، في أحسن الأحوال يجمع محتوى من الصحف الورقية ووكالات الأنباء، وربما قدم تغطية لمناسبات مناطقية أو عائلية.
وحتى على مستوى الإعلان، لم تستطع الصحافة الإلكترونية أن تسحب البساط من الصحافة الورقية، ولا أن تصل لمستويات دخل الصحافة الورقية، يستثنى ربما مثالان أو 3 من ذلك، رغم أن المعلن ذهب إلى سناب شات ويوتيوب وتويتر، لكنه لم يذهب عبر معرفات الصحف، وهو أمر فشلت فيه الصحافة الإلكترونية على منصات التواصل، ولم يكن ممكنا أن تفعله حسابات الصحف الورقية على الشبكات الاجتماعية، لعوائق اجتماعية وحساسية من النقد، فدعونا لا ننكر أن قيام المؤسسة أو الفرد بالدعاية أمر منتقد من شريحة واسعة من المجتمع، أحيانا من باب التلذذ بالانتقاد فقط.
الأستاذ عبدالرحمن الراشد ترجل أيضا من الصحافة الورقية، وأمسك بالريموت كنترول ليقود قناة العربية، ولكن هل القنوات التلفزيونية اليوم بخير؟، وهل إعلاناتها كما كانت قبل سنوات، وكم قناة عربية أو حتى أجنبية تحقق أرباحا؟، الحقيقة أن كثيرا من الشاشات الرصينة والمهنية ليست ربحية، وتعتمد على دعم مباشر من الحكومة أو من دافع الضرائب، وتخلو في حالات من الإعلان تماما، الأمثلة كثيرة ومنها BBC إلى CNN.
هناك الحديث أيضا عن موت التلفزيون، ورغبة الناس في التوجه لما يسمى فيديو عند الطلب demand on video، ومشاهدات أفلام ومسلسلات دون إعلانات، ربما عبر شاشة التلفاز أو عبر شاشة لوحية، يستثنى من ذلك الأحداث اللحظية مثل المباريات الرياضية والأوسكار.
على مستوى تطوير الصحافة لتكون جاذبة رقميا، كانت هناك تجارب ممتازة في السعودية، وكانت هناك تجارب لا تعي فكرة التحول لمحتوى رقمي، فوجود النسخة الورقية بصيغة PDF، ليس تحولا رقميا، كما أن تطوير الصحفيين لهذه النقلة لم يكن أولوية لدى عديد من المؤسسات.
هناك عوامل مؤثرة على دخل الصحافة ولا تخص الصحافة وحدها، فثقة المستهلك بالبطاقات الائتمانية كان ضعيفا حتى سنوات قريبة، فقد كانت نسبة حاملي البطاقات الائتمانية في السعودية تقل عن 5%، النساء منهم في حدود 2%، وهذا قلل المداخيل من التجارة الإلكترونية ومن تطبيقات الهواتف، حتى بدأ هناك تطوير لآليات دفع أكثر موثوقية لدى المستهلك من بطاقات مسبقة الدفع، وطورت المصارف بطاقة موازية بحد ائتماني بسيط لتقليل مخاطر القرصنة الإلكترونية.
غياب ثقافة حقوق الملكية والمشاهد المعتادة، لانتشار التطبيقات المنسوخة على إسطونات تباع على قارعة الطريق، هو في واقع الأمر ذهنية سادت لفترة، وهي كما أسلفت ما دعت لوجود بحر من المواقع الإلكترونية، التي تنسخ المحتويات دون أي خشية قانونية، وهو ما يعد هدرا في مداخيل صانع المادة الإعلامية وضياعا لحقوقه.
ختاما، أعتقد أن المهم صون علامات تجارية مهمة، صنعتها هذه الصحافة عبر عقود، لا يهمني حقيقة إن قرأتها بنسختها الورقية أو قرأتها على الآيباد، المحتوى الصحفي الحقيقي سيجد قارئه، كما أن وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية، هي صوت الوطن وسلاح له في الأزمات، حتى لو لم تكن ذات جدوى اقتصادية، فهناك دول لديها صحف أكثر من اللاعبين غير المجنسين في منتخباتها.

صحيفة عكاظ

http://www.okaz.com.sa/article/1606220/

الاثنين 15 يناير 2018


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *