حين انطلقت ثورات الربيع العربي، لا سيما النموذج السلمي في مصر وتونس، كان كثير من العراقيين يشعرون بالغيرة، فحتى أكثر المعادين لصدام حسين ونظام البعث، أحس بغصة في بدايات الربيع العربي لجهة سقوط النظام العراقي عبر محتل أجنبي، يستثنى من ذلك بالطبع عملاء إيران، ومن أتوا على ظهر الدبابات الأميركية وأشهرهم أحمد الجلبي، والذي وعد الأميركيين بأن يُستقبلوا بالورود في بغداد.

منذ سقوط بغداد في 2003 وحتى اليوم ووضع العراق لا يتسق مع قدراته الاقتصادية، فبعد سنوات من الحظر في وقت صدام حسين، جاءت سنوات المالكي الثماني العجاف لتعمق الطائفية والفقر وشح الخدمات، بل وكذبة الجيش القوي خصوصاً بعد غيابه كالسراب في الموصل، كل هذا التخبط كان استراتيجية إيرانية بمباركة أميركية.

وبدلاً من أن ينعم العراقيون بمستوى معيشي يليق بهم كدولة نفطية، بل ودولة تملك مع النفط الأنهار ووفرة المياه، وهي الدولة التي كانت تباهي العالم بنخيلها ورزها الذي لا يضاهى، أصبحت دولة يخرج فيها الشعب حنقاً من النظام لشح الكهرباء، في هذا العام الذي لم تشهد المنطقة مثيلاً لحرارته، ومن المستحيل أن تحقق أي حكومة خدمات للمواطنين، إذا كانت ارتضت أن يدار الملف الأمني بميليشيات بدلاً من شرطة وجيش كما في الدول عادة، وهذا بالطبع يأتي بسبب الحقد الإيراني التاريخي على الجيش العراقي، وإدراك إيران أن العراقيين عروبيون وطنيون في الغالب أياً كانت طائفتهم، ولهذا خرجت المرجعية في كربلاء لتعترض على التصريحات الإيرانية قبل أشهر والتي ذكرت أن بغداد عاصمة الإمبراطورية الإيرانية.

المؤشر الخطير بالنسبة إلى إيران ووكلائها في العراق، كانت التظاهرات المستمرة في العراق للأسبوع الرابع، إذ خرجت الجمعة الماضية تظاهرات في عشر محافظات، ولم تكن كتظاهرات 2010 في الأنبار والفلوجة، والتي كان سهل على المالكي أن يصفها حينها بأنها صراع بين علي ومعاوية، لأنها في مناطق سنية ولأن الخطاب الطائفي وحده الذي يطرب الملالي في طهران.

أما التظاهرات الحالية فهي تخرج في بغداد، بل وفي النجف وكربلاء والبصرة حيث كان الهدوء هو العنوان في المحافظات الجنوبية خلال السنوات الماضية، وهي المحافظات الشيعية، ولكن يبدو أن حزب الدعوة بعد تولي العبادي قرر أن يكون عادلاً في الظلام، فانقطاع الكهرباء أصبح من حق الجميع.

وزير الكهرباء خرج ليقول كما كان يقول المالكي رشّدوا إنفاق خزانات المياه، كردّ مستفز على سؤال العراقيين عن الانقطاع المستمر للكهرباء، وفي محاولة لامتصاص غضب العراقيين، ألغى العبادي مناصب نواب الرئيس ونواب رئيس الوزراء وتقليل الحراسات، ولكنه من جانب آخر ذكر أن تغيير النظام غير ممكن حالياً، لعدم وجود بديل مناسب، وهي رمزية تدل على أن حرق أوراق معينة قد يكون ضرورياً ليستمر اللاعب في السيطرة.

ولكن الإصلاحات إن صدقت النيات، ولو على مصلحة الحفاظ على النظام، كانت ضرورياً أن تشعل صراعاً خصوصاً مع المالكي، المتهم بإهدار تريليون دولار من دخل العراق، والتي لا شك في أنها كانت تخدم تمويل إيران لميليشياتها خلال سنوات العقوبات الماضية، المالكي كان يتكلم كناسك منذ أن ترك كرسي رئاسة الوزراء بمرارة، وينتقد السياسيين الحاكمين حالياً، وكأن كل هذا الفساد وشح الخدمات وتمدد داعش لم يكن هو السبب الرئيسي له.

المالكي كان يعتبر أن عزله خطأ استراتيجي حتى وداعش على أطراف مصفاة بيجي، وكان يعتبر أن المجتمع الدولي سيندم بعد أشهر ويلجأ له لينقذ العراق، وحين لم يحدث ذلك بل وعزله رفيقه العبادي، وربما تكون محاكمته ككبش فداء لإرضاء المتظاهرين مطلوبة، لجأ إلى إيران التي استقبلته تحت المنصب الذي ألغي، ومن المرشح أن إيران ستضغط كي لا يُحاسب.

العراق يمر اليوم عبر عنق زجاجة، سيحسم فيه العراقيون أمرهم بأنفسهم، إما أن يقرروا الاستقلال عن عبث إيران وميليشياتها، أو أن يصدقوا الإصلاحات التي تريد أن تزيل القشرة، ولكنها تتجنب الوصول إلى حيث نخر الفساد، ومن يرد تمر النخلة عليه أن يتسلق جذعها.

 

صحيفة الحياة

http://www.alhayat.com/Opinion/Abdulrahmaan-Al-Toriri/10748826/

الاثنين 24 أغسطس 2018


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *