ترجّل الفارس والطيار والاقتصادي الديبلوماسي السياسي عن الدنيا، بعد أربعة عقود من توليه حقيبة الخارجية التي تركها قبل شهرين بعد مرات من تقديم استقالته ثم رفضها من الملك عبدالله، رحمه الله، رغبة منه بأن يستريح بعدما أعيته الأمراض، إذ عانى الأمير سعود الفيصل من مرض الشلل الرعاش، وأجريت له كذلك جراحات عدة في العمود الفقري.
لكنه كان حاضر الذهن متقد البديهة حكيم الرد وحاضر الدعابة دوماً، وإن كانت كوميديا سوداء أحياناً، مثلما خاطب أعضاء مجلس الشورى بعد وعكته الصحية الأخيرة قائلاً: «وإنني أستميحكم عذراً أن أكون بينكم اليوم وأنا لا أزال في طور النقاهة، إثر عملية جراحية كانت حالتي فيها أشبه بحال أمتنا».
في تلك الكلمة أمام مجلس الشورى أراد أن يُطلع المجلس على السياسة الخارجية للمملكة بعد تشكيل الحكومة الجديدة قبل شهور، وكم كان رثاؤه في تلك الكلمة للراحل الملك عبدالله مؤثراً، حتى دمعت عيناه بصدق على رحيل «الملك الصالح»، وقد كانت لحظة إنسانية بدا فيها حزنه على تغييب المرض له عن عزاء الملك عبدالله وعن بيعة الملك سلمان بن عبدالعزيز.
تلك الكلمة كانت فرصة للشباب قبل الشيب للإطلاع على نهج السياسة الخارجية للمملكة، والذي أرساه الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن، وسار على نهجه أبناؤه ملوك المملكة، وهو النهج الذي يصعب إدراكه لدى أصحاب الذاكرة القصيرة، وما النهج الراسخ للسياسة الخارجية التي كان الأمير سعود أحد أركانها ولاعباً مهماً في دائرة صنع قرارها خلال حكم أربعة ملوك، إلا دلالة على أنه بشخصه رجل دولة، وأن السعودية دولة عريقة تلتزم بسياسات ثابتة.
تلك السياسات كانت ثابتة في منطقة لم تعرف الدعة والثبات أبداً، إذ كانت السعودية تستقي سياستها الخارجية من الدين الإسلامي، وتعمل لما فيه أمن واستقرار المملكة، مهما كانت القلاقل المحيطة بها، كما أنها لم تتخلَ يوماً عن دورها في حفظ الأمن العربي والإقليمي، وكانت دولة ملتزمة بالمعاهدات والمواثيق والقانون الدولي، بينما دول أخرى في المنطقة لا تعبأ بالقانون الدولي، وربما تختصر سياساتها في رؤية فرد.
الأمير سعود الفيصل لم تعرف فترة إدارته حقيبة الخارجية لحظة هدوء، تبعاً لمنطقتنا التي شاء القدر أن يكون المعتاد فيها هو القلاقل، إذ تولى حقيبة الخارجية في العام 1975 خلفاً لوالده الملك فيصل، وهو العام الذي نشبت فيه الحرب الأهلية في لبنان وكان هو أحد الفاعلين في إيجاد حل لها سُمّي باسم مسقط رأسه الطائف، وكانت إثباتاً على أن إيقاف الحرب أصعب من إشعالها، وهذا في المطلق فما بالك بلبنان بلد الطوائف والأعراق المتعددة وساحة التداخل السوري – الفلسطيني – الإسرائيلي.
تولى الأمير الراحل كذلك وزارة الخارجية بعد توتر في العلاقات السعودية – الأميركية، جراء حظر تصدير النفط إبان حرب 1973، وعمل بمهارة على ترميم العلاقة مع الحليف الأميركي، وامتلك مهارة الإقناع عبر ديبلوماسيته الفطنة، إذ أقنع الغرب بدعم العراق في حربه ضد إيران، وكذلك بتحرير الكويت، والمشاركة الكبيرة من القوات الأميركية والبريطانية وبقية الحلفاء، في الحفاظ على الحكم في الكويت.
ولأنه والأمير بندر بن سلطان (زوج شقيقته) يوجدان دائماً في الأنفاق المليئة بالشوك، متى ما كانت بصيرتهما ترى النور في آخر النفق، فقد كان لهما جهد بارز في ملف لوكربي، ومحاولة إيجاد حل لإخراج ليبيا من العزلة الدولية، وهو النهج الذي نراه في ما يخص الكثير من الدول العربية في مسيرة الأمير سعود الفيصل وتصريحاته.
كان مدركاً لخطر التوغل السوفياتي في أفغانستان كبلد مسلم، وأثر هذا التمدد جيو-سياسياً في المنطقة، وكانت أكثر القضايا التي تشغله هي قضية العرب الرئيسة فلسطين التي ظل يذكرها وينافح عن حقوق أهلها منذ خطابه في الأمم المتحدة في العام 1977، وحتى خطابه الأخير في مجلس الشورى السعودي.
كان سعود الفيصل مباشراً حين ذكر للأميركيين أن إسقاط النظام في العراق قد يحل مشكلة لكنه سيسبب خمس مشاكل، مشيراً إلى أنه يمكن إسقاط صدام وإبقاء مؤسسات الدولة. وقال صراحة في الأمم المتحدة: «أميركا تسلم العراق إلى إيران على طبق من فضة»، وأخيراً في موضوع اليمن و «عاصفة الحزم» حين قال: «لسنا دعاة حرب، وإذا أرادتها إيران فنحن أهل لها».
تكلم عنه كثيرون من الزعماء ووزراء الخارجية بعد وفاته، ويمكن إيجاز الثابت في قولهم بأن أصدقاءه أحبوه وخصومه احترموه، واليوم في رحيله نعزي أنفسنا والأمتين العربية والإسلامية برحيل جبل الدهاء والحنكة.
صحيفة الحياة
http://www.alhayat.com/Opinion/Abdulrahmaan-Al-Toriri/9943059
13 يوليو 2015
اترك تعليقاً