في نهج السعودية السياسي كثيراً ما تجاوزت المملكة خلافاتها مع أشقائها العرب؛ من أجل أهداف أسمى، وكانت دائماً وحدة العرب مقدمة في السياسة الخارجية السعودية. شهدنا ذلك في عهد المؤسس الملك عبدالعزيز، بعد أن رفض الملك فؤاد الاعتراف بالمملكة بعد ضمها للحجاز؛ لأن بقاء الحجاز في نظره تحت إمرة مصر سبيله ليكون خليفة المسلمين. فتح الملك عبدالعزيز ذراعيه لخلفه الملك فاروق واستقبله استقبالاً مميزاً في رضوى القريبة من ميناء ينبع، ثم لبى دعوته بزيارة مصر، وهي الدولة الوحيدة التي زارها الملك المؤسس منذ توليه الحكم.
جرى ذلك أيضاً مع مصر حين تجاوز الملك فيصل الخلافات وعانق الرئيس جمال عبدالناصر، معقباً أننا وأشقاءنا في مصر لا نحتاج إلى وساطات، وكانت الوقفة السعودية الحاسمة مع مصر في تصديها للعدو الإسرائيلي. تكررت هذه النظرة العروبية في مواقف عدة من أبناء المؤسس، إذ كان دوماً التضامن العربي هو الرجاء، وكانت دائماً مصر مهمة للسعودية، كما وصى بذلك الملك المؤسس أبناؤه من بعده.
هذا السرد التاريخي لكي نبين أن بيان الملك عبدالله بعد الاتفاق الخليجي المكمل في الرياض، والذي حرص على تجاوز كل الخلافات، والتأكيد على الدعم المطلق لمصر، ليس بياناً طارئاً، بل هو نهج إستراتيجي، يأمل من خلاله الملك عبدالله بثقله السياسي أن تلتزم قطر بمهلة الشهر، وتلتزم بتغيير سياستها الإعلامية، وأن تكون في رئاستها للقمة الخليجية المقبلة مجمِّعةً للخليجيين لا مفرِّقة، وأن تزول كل أسباب الخلاف المعروفة مع السعودية والإمارات والبحرين.
البيان يؤكد إدراك السعودية أن المخاطر الأمنية الإقليمية أهم من كل الخلافات البينية، وأنه لا توجد دولة بمنأى عن المخاطر القائمة، وأن التضامن الخليجي كلبنة أولى هو السبيل للتصدي لهذه المخاطر، وهي مخاطر موجودة عبر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، وموجود بدرجة أكبر عبر تحرك الحوثي الأخير في اليمن، والذي استهدف فيما استهدف إسقاط المبادرة الخليجية، ولاسيما أن رفيق الكفاح الحوثي أخيراً هو علي عبدالله صالح الذي أسقطته المبادرة.
كما أن البيان يأتي كثمرة لجهود حثيثة بذلها خادم الحرمين منذ أسابيع، منها استقباله للشيخ تميم مرتين، إحداهما في رمضان الماضي، وكذلك الوفد الثلاثي الذي تشكل من وزير الداخلية السعودي ورئيس جهاز الاستخبارات ورئيس الأمن الوطني، إضافة إلى العديد من الاتصالات مع الدول الخليجية الثلاث، ولاسيما بعد فشل محاولات الإصلاح الخليجية الأخرى، وحرص السعودية لوضع حد لثمانية أشهر من الاحتقان الخليجي.
مصر التي توجه لها البيان شعباً وحكومة، يهدف إلى وساطة تقدمها السعودية بين مصر وقطر، وهو ما يعضد التضامن العربي في وجه الإرهاب، الذي أصبح يطاول مصر براً وبحراً، ومحاولات عملية الكرامة في ليبيا؛ للقضاء على الإرهاب للخروج من حالة اللادولة، مدركين أهداف التحركات التركية عبر زيارة ليبيا والجزائر، ورفض المشاركة في الحرب على «داعش»، والدور الغامض الذي تلعبه السودان في الشأن الليبي، وكذلك المفاوضات الإيرانية حول الملف النووي، والتي من الصعب أن يظن عاقل أن نتائجها الإيجابية لن تكون ضد العرب والخليجيين تحديداً.
الرئاسة المصرية رحبت ببيان خادم الحرمين الشريفين -فيما بدا أنه تقدير لمكانه المملكة ومليكها-، ولكن شهدت الشبكات الاجتماعية رفضاً لعودة العلاقات لطبيعتها مع قطر، ويحتاج المصريون من قطر إلى ما يشير إلى حسن النوايا، وتحديداً تغيير الخطاب الإعلامي، إضافة إلى تسليم المطلوبين أمنياً لمصر والموجودين في الدوحة، إكمالاً للخطوة الطيبة التي قامت بها قطر عبر طرد قيادات من الإخوان وترحيلهم.
ختاماً، قيل في الأثر «الحكمة يمانية»، واليوم حكيم العرب يثبت قدرته على لمِّ الشمل وإقناع الأشقاء بتجاوز الخلافات، وها هو السفير السعودي يعود للدوحة، وفي طريقه للعودة إلى بغداد خلال شهر، آملين أن تبقى دولنا الخليجية والعربية متعاضدة في وجه التحديات، ولقبلة الرأس في الطائرة وفي المجلس رمزية تجعلنا نقول إن «الحكمة سعودية».
صحيفة الحياة
http://alhayat.com/Opinion/Abdulrahmaan-Al-Toriri/5840783
الاثنين 24 نوفمبر 2014م
اترك تعليقاً